فصل: التفسير المأُثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لاَ جَرَمَ} أي: حقًا: {أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} أي: عن التوحيد، وهم المشركون، أو عن الحق مطلقًا فيتناول هؤلاء، وهذا كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} [24- 25].
{وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي: لم ينزل شيئًا. إنما هذا الذي يتلى علينا أحاديث الأولين، استمدها منها. كما قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5].
{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: قالوا ذلك ليحملوا أوزارهم الخاصة بهم، وهي أوزار ضلالهم في أنفسهم، وبعض أوزار من أضلوهم، كقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13]، فاللام في قوله: {لِيَحْمِلُوا} لام العاقبة؛ لأن ما ذكر مترتب على فعلهم، ولا باعثًا إما مجازًا، وإما حقيقة، على معنى أنه قدر صدوره منهم ليحملوا، وقد قيل: إنها للتعليل وإنها لام أمر جازمة، والمعنى: إن ذلك متحتم عليهم. فيتم الكلام عند قوله: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} كذا في العناية، وقوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال الزمخشري: حال من المفعول: أي: من لا يعلم أنهم ضُلال، وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه، وإن لم يعلم؛ لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل. فجهله لا يعذره: {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} أي: ألا بئس ما يحملون. ففيه وعيد وتهديد.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [26].
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: بأنبيائهم: {فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} أي: قلع بنيانهم من قواعده وأُسُسه فهدمه عليهم حتى أهلكهم و{الإتيان} يتجوز به عن {الإهلاك} كقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2]، ويقال: أُتِي فلان من مأمنه، أي: جاءه الهلاك من جهة أمنه، وأتى عليه الدهر: أهلكه وأفناه، ومنه الأُتُوُّ وهو الموت والبلاء. يقال أتى على فلان أتوُّ، أي: موت أو بلاء يصيبه، وقد جوَّز في الآية إرادة حقيقة هلاكهم. كالمحكي عن قوم لوط وصالح عليهما السلام، فيما تقدم. أو مجازه على طريق التمثيل؛ لإفساد ما أبرموه من هدم دينه تعالى. شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد، للإيقاع بالرسل عليهم السلام، وفي إبطاله تعالى تلك الحيل، وجعله إياها أسبابًا لهلاكهم، بحال قوم بنوا بنيانًا وعمَّدوه بالأساطين. فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت، فسقط عليهم السقف فهلكوا، ووجه الشبه: أن ما عدوه سبب بقائهم، عاد سبب استئصالهم وفنائهم، كقولهم: من حفر لأخيه جبًا وقع فيه منكبًا، وقوله: {مِن فَوْقِهمْ} متعلق بـ {خَرَّ}، و{من} لابتداء الغاية، أو متعلق بمحذوف على أنه حال من {السقف} مؤكدة، وقيل: إنه ليس بتأكيد؛ لأن العرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط، إذا انهدم في ملكه وإن لم يقع عليه: {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ} أي: الهلاك والدمار: {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: لا يحتسبون.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [27].
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} أي: يذلِّهم ويهينهم بعذاب الخزي. لقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عِمْرَان: 192]، {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي: تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم، وفيه تقريع وتوبيخ بالقول، واستهزاء بهم؛ إذْ أضاف الشركاء إلى نفسه لأدنى ملابسة، بناء على زعمهم، مع الإهانة بالفعل المدلول عليها بقوله: {يُخْزِيهِمْ} أي: ما لهم لا يحضرونكم ليدفعوا عنكم! لأنهم كانوا يقولون: إن صح ما تقول فالأصنام تشفع لنا. فهو كقوله: {أَيْنَ شُرَكَاؤكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22]، وقيل: حكي عن المشركين زيادة في توبيخهم {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} وهم الأنبياء أو العلماء، الذين كانوا يدعونهم إلى الحق فيشاقونهم: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ} أي: الفضيحة والعذاب: {عَلَى الْكَافِرِينَ} أي: المشركين به تعالى. ما لا يضرهم ولا ينفعهم، وإنما قال: {الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} هذا شماتة بهم، وزيادة إهانة بالتوبيخ بالقول، وتقريرًا لما كانوا يعظونهم، وتحقيقًا لما أوعدوهم به.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [28- 29].
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} هذا إخبار عن حال المشركين الظالمي أنفسهم بتبديل فطرة الله، عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم، بأنهم يلقون السلم، أي: ينقادون ويسالمون ويتركون المشاقة، والعدول إلى صيغة الماضي؛ للدلالة على تحقق الوقوع، وأصل الإلقاء في الأجسام فاستعمل في إظهار الانقياد؛ إشعارًا بغاية خضوعهم واستكانتهم، وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب على الاستعارة، وقوله تعالى: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} منصوب بقول مضمر، حال. أي: قائلين ذلك. أو هو تفسير {للسلم} الذي ألقوه؛ لأنه بمعنى القول؛ بدليل الآية الأخرى: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْل} [النحل: 86]، كما يقولون يوم المعاد: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18]. ثم أخبر تعالى أن الملائكة تجيبهم بقوله: {بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: فلا يفيد الإنكار والكذب على الأنفس: {فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: مقدرًا خلودكم.
قال ابن كثير: وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورها. من حرها وسمومها. فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم، وخلدت في نار جهنم {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]. كما قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وقوله: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي: بئس المقيل والمقام لمن كان متكبرًا عن آيات الله وإتباع رسله. فذكرهم بعنوان التكبُّر؛ للإشعار بعليته لثوائهم فيها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 12]، وفى سورة الزمر: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72]، وفى سورة المؤمن: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر: 76]، للسائل أن يسأل عن زيادة اللام في اية النحل وسقوطها في الآيتين الآخريين وما وجه ذلك؟
والجواب عن ذلك: أن أية النحل تقدمها ثمانى أيات أو نحوها في ذكر هؤلاء المقول لهم: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} وفى وصفهم من لدن قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24] إلى قوله: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} [النحل: 29]، وتلك اطالة في ذكرهم، والاستيفاء يناسبه التأكيد باللام المشيرة إلى معنى القسم، وأما الآيتان في سورة الزمر وسورة المؤمن فان المتقدم في الاولى منهما قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71] إلى قوله: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} [الزمر: 72]، وذلك كلام قد جمع إلى الوجازة أنة لم يذكر من كفرهم مثل ما ذكر في المذكورين قبل أية النحل من ردهم المنزل بقولهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وتلك مقالة شنعاء من كفرهم، فناسب الايجازالواقع قبل أية الزمر مع أجمل فيها من كفرهم بسقوط اللام من قوله: {فبئس} وأما أية سورة المؤمن فلم يقع ايضا قبلها استيفاء التعريف ما وقع في سورة النحل ولا نص من شنيع مرتكبهم على غير التكذيب، فناسب ذلك سقوط اللام كما في سورة الزمر، وورد كل على ما يجب ويناسب. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}.
اتصفوا بالمكر فحاق بهم مَكْرُهم، ووقعوا فيم حفروه لغيرهم، واغتروا بطول الإمهال، فأخذهم العذابُ من مأْمَنِهم، واشتغلوا بِلهوهِم فَنَغَّصَ عليهم أطيب عَيْشهم:
قوله جلّ ذكره: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وََأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}.
الذي وصف نفسه به في كتابه من الإتيان فمنعاه العقوبة، وذلك على عادة العرب في التوسع في الخطاب.
وهو سبحانه يكشف الليلَ ببَدْره ثم يأخذ الماكر بما يليق بمَكْره، وفي معناه قالوا:
وأَمِنْتُه فأَتَاحَ لي من مأْمَني ** مكْرًا كذا مَنْ يَأْمَنُ الأياما

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}.
في الدنيا عاجلُ بلائهم، وبين أيديهم آجِلُه، وحَسْرةُ المُفِلس تتضاعف إذا ما حُوسِبَ، وشاهَدَ حاصِلَه.
{قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} يُسْمِِعُ الكافرين قولَ المؤمنين، ويبيِّن للكافة صِدْقَهم، ويقع الندمُ على جاهلهم، وأما اليومَ فعليهم بالصبر والتحمُّل، وعن قريب ينكشف الغطاء، وأنشد بعضهم:
خليليَّ لو دارت على رأسِيَ الرَّحى ** من الذُّلِّ لم أَجْزَعْ ولم أَتَكلَّمِ

وأطرقتُ حتى قيل لا أعرفُ الجفا ** ولكنني أفصحتُ يومَ التكلُّمِ

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}.
{ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ} بارتكاب المعاصي وهم الكفار.
{فَأَلْقُوا السَّلَمَ} انقادوا واستسلموا لحكم الله.
{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} جحدوا وأنكروا ما عملوا من المخالفات.
{بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} هكذا قالت لهم الملائكة، ثم يقولون لهم: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ} وكذلك الذين تقسو نفوسُهم بإعراضهم عن الطاعات إذا نزَلَتْ بهم الوفاةُ يأخذون في الجزع وفي التضرع، ثم لا تطيبُ نفوسهم بأن يُقِرُّوا بتفاصيل أعمالهم عند الناس، فيما يتعلق بإرضاء خصومهم لم أَخَلُّوا من معاملاتهم، ثم الله يؤاخذهم بالكبير والصغير، والنقير والقطمير، ثم يبقون أبدًا في وبال ما أحقبوه، لأن شؤم ذلك يلحقَهم في أُخراهم. اهـ.

.التفسير المأُثور:

قال السيوطي:
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {قد مكر الذين من قبلهم} قال: هو نمرود بن كنعان حين بنى الصرح.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير، عن زيد بن أسلم قال: أول جبار كان في الأرض نمرود، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وارحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه، وكان جبارًا أربعمائة سنة فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، ثم أماته الله، وهو الذي كان بَنَى صرحًا إلى السماء الذي قال الله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد}.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {قد مكر الذين من قبلهم} قال: مكر نمرود بن كنعان الذي حاج إبراهيم في ربه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد} قال: أتاها أمر الله من أصلها {فخر عليهم السقف من فوقهم} و{السقف} عالي البيوت فائتفكت بهم بيوتهم، فأهلكهم الله ودمرهم {وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي، عن ابن عباس في قوله: {تشاقون فيهم} يقول: تخالفوني. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قد مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}.
قوله تعالى: {مِّنَ القواعد} {مِنْ} لابتداء الغاية، أي: من ناحيةِ القواعدِ، أي: أتى أمرُ الله وعذابُه.
قوله: {مِن فَوْقِهِمْ} يجوز أن يتعلَّقَ ب {خَرَّ} وتكون {مِنْ} لابتداء الغاية، ويجوز أَنْ يتعلق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من {السقف} وهي حالٌ مؤكِّدة؛ إذ السقفُ لا يكون تحتهم، وقال جماعة: ليس قوله: {مِنْ تحتِهم} تأكيدًا؛ لأنَّ العرب تقول: خَرَّ علينا سَقْفٌ، ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإنْ لم يَقعْ عليه، فجاء بقوله: {من فوقهم} ليُخْرج هذا الذي في كلام العرب، أي: عليهم وَقَعَ وكانوا تحته فهلكوا، وهذا معنىً غيرُ طائلٍ، والقولُ بالتأكيد أَنْصَعُ منه.
والعامَّةُ على {بُنْيانِهم}، وفرقة: {بِنْيَتَهُمْ}، وفرقة- منهم أبو جعفر- {بَيْتهم}، والضحاك: {بُيوتهم}.
والعامَّةُ أيضًا: {السَّقْفُ} مفردًا، وفرقةٌ بفتحِ السين وضمِّ القاف بزنةِ عَضُد، وهي لغةٌ في السَّقْف، ولعلها مخففةٌ من المضموم، وكَثُرَ استعمالُ الفرعِ لخفَّتِه كقول تميم: رَجْل، ولا يقولون: رَجُل، وقرأ الأعرج {السُّقُف} بضمتين، وزيدٌ بن علي بضم السين وسكونِ القاف، وقد تقدَّم مثلُ ذلك في قراءة: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16].
{ثم يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}.
قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} مبتدأٌ وخبر، والعامَّة على {شركائي} ممدودًا، وسَكَّن ياء المتكلم فرقةٌ، فَتُحْذَفُ وصلًا لالتقاء الساكنين، وقرأ البزي بخلافٍ عنه بقصره مفتوحَ الياء، وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءةَ، وزعموا أنَّها غيرُ مأخوذٍ بها، لأنَّ قصرَ الممدودِ لا يجوز إلاَّ ضرورةً، وتعجب أبو شامةَ من أبي عمروٍ الداني حيث ذكرها في كتابه مع ضعفها، وترك قراءاتٍ شهيرةً واضحة.
قلت: وقد رُوِي عن ابنِ كثير أيضًا قَصْرُ التي في القصص، ورُوِي عنه أيضًا قَصْرُ {ورائي} في مريم، ورَوى عنه قنبل أيضًا قَصْرَ {أَن رَّآهُ استغنى} [الآية: 7]. في العلق، فقد رَوَى عنه قصرَ بعضِ الممدوداتِ، فلا تَبْعُدُ روايةُ ذلك عنه هنا، وبالجملة فَقَصْرُ الممدودِ ضعيفٌ، ذكره غيرُ واحدٍ لكن لا يَصِلُ به إلى حَدِّ الضرورة.
قوله: {تُشَاقُّون} نافع بكسرِ النونِ خفيفةً والأصل: تُشاقُّوني، فَحَذَفَها مجتزِئًا عنها بالكسرة، والباقون بفتحها خفيفةً، ومفعولُه محذوفٌ، أي: تُشَاقُّون المؤمنين أو تشاقُّون اللهَ، بدليلِ القراءةِ الأولى، وقد ضَعَّفَ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ، أعني قراءةَ نافعٍ، وقرأَتْ فرقةٌ بتشديدِها مكسورةً، والأصل: تُشَاقُّونني فأدغم، وقد تقدَّم تفصيلُ ذلك في {أتحاجواني} [الأنعام: 80]. {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54]، وسيأتي في قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني} [الزمر: 64].
قوله: {اليومَ} منصوب بالخِزْي، وعَمِل المصدرُ وفيه أل، وقيل: هو منصوبٌ بالاستقرار في {على الكافرين} إلا أنَّ فيه فَصْلًا بالمعطوفِ بين العاملِ ومعمولِه، واغتُفِر ذلك لأنهم يَتَّسِعُون في الظروفِ.
قوله تعالى: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ} يجوز أن يكونَ الموصولُ مجرورَ المحلِّ نعتًا لِما قبله، أو بدلًا منه، أبو بيانًا له، وأن يكونَ منصوبًا على الذمِّ، أو مرفوعًا عليه، أو مرفوعًا عليه، أو مرفوعًا بالابتداء، والخبرُ قوله: {فَأَلْقَوُاْ السلم} والفاء مزيدةٌ في الخبر، قاله ابن عطية، وهذا لا يجيْءُ إلاَّ على رأي الأخفش في إجازته زيادةَ الفاء في الخبر مطلقًا، نحو: زيد فقام، أي: قام، ولا يُتَوَهَّم أن هذه الفاء هي التي تدخل مع الموصولِ المتضمِّنِ معنى الشرط؛ لأنه لو صُرِّح بهذا الفعلِ مع أداةِ الشرط لم يَجُزْ دخولُ الفاء عليه، فما ضُمِّن معناه أَوْلَى بالمنع، كذا قاله الشيخ، وهو ظاهر، وعلى الأقوالِ المتقدمةِ خلا القول الأخيرِ يكون {الذين} وصلتُه داخلًا في المَقُول، وعلى القولِ الأخيرِ لا يكنُ داخلًا فيه.
وقرأ: {يَتَوَفَّاهُمْ} في الموضعين بالياء حمزة، والباقون بالتاء مِنْ فوق، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قوله: {فَنَادَتْهُ الملائكة} [آل عمران: 39]. {فناداه}، وقرأت فرقةٌ بإدغام إحدى التاءين في الأخرى، في مصحفِ عبد الله: {تَوَفَّاهم} بتاء واحدة، وهي مُحْتَمِلةٌ للقراءةِ بالتشديد على الإِدغام، وبالتخفيفِ على حَذْفِ إحدى التاءيْن.
و{ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} حالٌ مِنْ مفعولِ {تَتَوَفَّاهم} و{تَتَوَفَّاهم} يجوز أن يكونَ مستقبلًا على بابه إن كان القولُ واقعًا في الدنيا، وأن يكونَ ماضيًا على حكاية الحال إن كان واقعًا يوم القيامة.
قوله: {فَأَلْقَوا} يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أنه خبر الموصول وقد تقدَّم فسادُه. الثاني: أنه عطفٌ على {قَالَ الذين}. الثالث: أن يكونَ مستأنفًا، والكلامُ قم تَمَّ عند قوله: {أنفسِهم}، ثم عاد بقوله: {فألْقَوا} إلى حكاية كلام المشركين يومَ القيامة، فعلى هذا يكون قوله: {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم} إلى قوله: {أنفسهم} جملةَ اعتراض. الرابع: أن يكونَ معطوفًا على {تَتَوفَّاهم} قاله أبو البقاء، وهذا إنما يتمشَّى على أنَّ {تَتَوفَّاهم} بمعنى المُضِيِّ، ولذلك لم يذكرْ أبو البقاء في {تَتَوفَّاهم} سواه.
قوله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ} فيه أوجه، أحدها: أن يكون تفسيرًا للسَّلَم الذي أَلْقَوه؛ لأنه بمعنى القول بدليلِ الآيةِ الأخرى: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول} [النحل: 86]، قاله أبو البقاء، ولو قال: {يحكي ما هو بمعنى القول} كان أوفقَ لمذهب الكوفيين. الثاني: أن يكونَ {ما كنَّا} منصوبًا بقولٍ مضمرٍ، ذلك الفعلُ منصوب على الحال، أي: فألقَوا السَّلَم قائلين ذلك. و{مِن سواء} مفعول {نعمل}، زِيْدَتْ فيه {مِنْ}، و{بلى} جوابٌ ل {ما كنَّا} فهو إيجابٌ له.
{فدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)}.
قوله تعالى: {فَلَبِئْسَ} هذه لامُ التأكيدِ، وإنما دخَلَتْ على الماضي لجمودِه وقُرْبِه من الأسماء، والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ. أي: جهنم. اهـ.